فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ارجعوا إلى أبيكم} يعني يقول الأخ الكبير الذي عز على الإقامة بمصر لإخوته الباقين ارجعوا إلى أبيكم يعقوب: {فقولوا} له: {يا أبانا إن ابنك سرق} إنما قالوا هذه المقالة ونسبوه إلى السرقة لأنهم شاهدوا الصواع وقد أخرج من متاع بنيامين فغلب على ظنهم أنه سرق فلذلك نسبوه إلى السرقة في ظاهر الأمر لا في حقيقة الحال ويدل على أنهم لم يقطعوا عليه بالسرقة قولهم: {وما شهدنا إلا بما علمنا} يعني ولم نقل ذلك إلا بعد ان رأينا إخراج الصواع وقد أخرج من متاعه وقيل معناه ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما علمناه وهذه ليست بشهادة إنما هو خبر عن صنيع ابنك أنه سرق بزعمهم فيكون المعنى ان ابنك في زعم الملك وأصحابه لا أنّا نشهد عليه بالسرقة: وقرأ ابن عباس والضحاك: {سرق} بضم السين وكسر الراء وتشديدها أي نسب إلى السرقة واتهم بها وهذه القراءة لا تحتاج إلى تأويل ومعناها أن القوم نسبوه إلى السرقة إلا أن هذه القراءة ليست مشهورة فلا تقوم بها حجة والقراءة الصحيحة المشهورة وهي الأولى وقوله وما شهدنا إلا بما علمنا يعني وما قلنا هذا إلا بما علمنا فيما رأينا إخراج الصواع من متاعه، وقيل: معناه ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما عملناه وليست هذه شهادة وإنما هو خبرعن صنيع ابنك بزعمهم.
وقيل: قال لهم يعقوب هب أنه سرق فما يدري هذا الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته إلا بقولكم قالوا ما شهدنا عنده أن السارق يسترق إلا بما علمنا من الحكم وكان الحكم كذلك عند الأنبياء قبله ويعقوب وبنيه.
وأورد على هذا القول كيف جاز ليعقوب إخفاء هذا الحكم حتى ينكر على بنيه ذلك.
وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون ذلك الحكم كان مخصوصًا بما إذا كان المسروق منه مسلمًا فلهذا أنكر عليهم إعلام الملك بهذا الحكم لظنه أنه كافر: {وما كنا للغيب حافظين} قال مجاهد وقتادة: يعني ما كنا نعلم أن ابنك سرق ويصير أمرنا إلى هذا ولو عملنا ذلك ما ذهبنا به معنا وإنما قلنا ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه منه سبيل، وقال ابن عباس: ما كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين وقيل معناه إن حقيقة الحال غير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله فلعل الصواع دس في رحله ونحن لا نعلم بذلك: {واسأل القرية التي كنا فيها} يعني واسأل أهل القرية إلا أن حذف المضاف للإيجاز ومثل هذا النوع من المجاز مشهور في كلام العرب والمراد بالقرية مصر، وقال ابن عباس: هي قرية من قرى مصر كان قد جرى فيها حديث السرقة والتفتيش: {والعير التي أقبلنا فيها} يعني واسأل القافلة التي كنا فيها وكان صحبهم قوم من كنعان من جيران يعقوب: {وإنا لصادقون} يعني فيما قلناه وإنما أمرهم أخوهم الذي أقام بمصر بهذه المقالة مبالغة في إزالة التهمة عن أنفسهم عند أبيهم لأنهم كانوا متهمين عنده بسبب واقعة يوسف: {قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا} فيه اختصار تقديره فرجعوا إلى أبيهم فأخبروه بما جرى لهم في سفرهم ذلك وبما قال لهم كبيرهم وأمرهم أن يقولوه لأبيهم فعند ذلك قال لهم يعقوب بل سولت يعني بل زينت لكم أنفسكم أمرًا وهو حمل أخيكم معكم إلى مصر لطلب نفع عاجل فآل أمركم إلى ما آل، وقيل: معناه بل خيلت لكم أنفسكم أنه سرق ما سرق: {فصبر جميل} تقدم تفسيره في أول السورة.
وقوله: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا} يعني بيوسف وبنيامين والأخ الثالث الذي أقام بمصر وإنما قال يعقوب هذه المقالة لأنه لما طال حزنه واشتد بلاؤه ومحنته علم أن الله سيجعل له فرجًا ومخرجًا عن قريب فقال ذلك على سبيل حسن الظن بالله لأنه إذا اشتد البلاء وعظم كان أسرع إلى الفرج، وقيل: إن يعقوب علم بما يجري عليه وعلى بنيه من أول الأمر وهو رؤيا يوسف وقوله: {يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا} فلما تناهى الأمر قال عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا: {إنه هو العليم} يعني بحزني ووجدي عليهم: {الحكيم} فيما يدبره ويقضيه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا}
استفعل هنا بمعنى المجرد، يئس واستيأس بمعنى واحد نحو: سخر واستسخر، وعجب واستعجب.
وزعم الزمخشري أن زيادة السين والتاء في المبالغة قال: نحو ما مر في استعصم انتهى.
وقرأ ابن كثير: {استيأسوا} استفعلوا، من أيس مقلوبًا من يئس، ودليل القلب كون ياء أيس لم تنقلب ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
ومعنى خلصوا نجيًا: انفردوا من غيرهم يناجي بعضهم بعضًا.
والنجي فعيل بمعنى مفاعل، كالخليط والعشير.
ومعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل: النجوى بمعنى التناجي، وهو لفظ يوصف به من له نجوى واحدًا كان أو جماعة، مؤنثًا أو مذكرًا، فهو كعدل، ويجمع على أنجية قال لبيد:
وشهدت أنجية الأفاقة عاليًا ** كعبي وأرداف الملوك شهود

وقال آخر:
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه

ويقول: قوم نجى وهم نجوى تنزيلًا للمصدر منزلة الأوصاف.
ويجوز أن يكون هم نجى من باب هم صديق، لأنه بزنة المصادر محصوًا للتناجي، ينظرون ماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم لهذا الذي دهمهم من الخطب فيه، فاحتاجوا إلى التشاور.
وكبيرهم أي: رأيًا وتدبيرًا وعلمًا، وهو شمعون قاله: مجاهد.
أو كبيرهم في السن وهو روبيل قاله: قتادة.
وقيل: في العقل والرأي، وهو يهوذا.
ذكرهم الميثاق في قول يعقوب: لتأتنني به إلا أن يحاط بكم، وما زائدة أي: ومن قبل هذا فرطتم في يوسف.
ومن قبل متعلق بفرطتم، وقد جوزوا في إعرابه وجوهًا: أحدها: أن تكون ما مصدرية أي: ومن قبل تفريطكم.
قال الزمخشري: على أن محل المصدر الرفع على الابتداء، وخبره الظرف، وهو ومن قبل ومعناه: ووقع من قبل تفريطكم في يوسف.
وقال ابن عطية: ولا يجوز أن يكون قوله: من قبل، متعلقًا بما فرطتم، وإنما تكون على هذا مصدرية، التقدير: من قبل تفريطكم في يوسف واقع ومستقر.
وبهذا القدر يتعلق قوله من قبل انتهى.
وهذا وقول الزمخشري راجع إلى معنى واحد وهو: إن ما فرطتم يقدر بمصدر مرفوع بالابتداء، ومن قبل في موضع الخبر، وذهلا عن قاعدة عربية، وحق لهما أن يذهلا وهو أنّ هذه الظروف التي هي غايات إذا ثبتت لا تقع أخبارًا للمبتدأ جرت أو لم تجر، تقول: يوم السبت مبارك والسفر بعده، ولا يجوز والسفر بعد وعمروزيد خلفه.
ولا يقال: عمروزيد خلف.
وعلى ما ذكراه يكون تفريطكم مبتدأ، ومن قبل خبر، وهو مبني، وذلك لا يجوز وهذا مقرر في علم العربية.
ولهذا ذهب أبو علي إلى أنّ المصدر مرفوع بالابتداء، وفي يوسف هو الخبر أي: كائن أو مستقر في يوسف.
والظاهر أنّ في يوسف معمول لقوله: فرطتم، لا أنه في موضع خبر.
وأجاز الزمخشري وابن عطية: أن تكون ما مصدرية، والمصدر المسبوك في موضع نصب، والتقدير: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقًا من قبل وتفريطكم في يوسف.
وقدره الزمخشري: وتفريطكم من قبل في يوسف، وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد، لأنّ فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرف واحد، وبين المعطوف، فصار نظير: ضربت زيدًا وبسيف عمرًا.
وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر.
وأما تقدير الزمخشري: وتفريطكم من قبل في يوسف، فلا يجوز لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري والفعل عليه، وهو لا يجوز.
وأجاز أيضًا أن تكون موصولة بمعنى الذي.
قال الزمخشري: ومحله الرفع أو النصب على الوجهين انتهى.
يعني بالرفع أن يرتفع على الابتداء ومن قبل الخبر، وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز.
ويعني بالنصب أن يكون عطفًا على المصدر.
المنسبك من قوله: إن أباكم قد أخذ، وفيه الفصل بين حرف العطف الذي هو الواو، وبين المعطوف.
وأحسن هذه الأوجه ما بدأنا به من كون ما زائدة، وبرح التامة تكون بمعنى ذهب وبمعنى ظهر، ومنه برح الخفاء أي ظهر.
وذهب لا ينتصب الظرف المكاني المختص بها، إنما يصل إليه بوساطة في فاحتيج إلى اعتقاد تضمين برح بمعنى فارق، فانتصب الأرض على أنه مفعول به.
ولا يجوز أن تكون ناقصة لأنه لا ينعقد من اسمها، والأرض المنصوب على الظرف مبتدأ وخبر، لأنه لا يصل إلا بحرف في.
لو قلت: زيد الأرض لم يجز، وعني بالأرض أرض مصر التي فيها الواقعة، ثم غيا ذلك بغايتين: إحداهما: خاصة وهي قوله: حتى يأذن لي أبي، يعني في الانصراف إليه.
والثانية: عامة وهي قوله: أو يحكم الله لي، لأنّ إذن الله له هو من حكم الله له في مفارقة أرض مصر، وكأنه لما علق الأمر بالغاية الخاصة رجع إلى نفسه فأتى بغاية عامة تفويضًا لحكم الله تعالى، ورجوعًا إلى من له الحكم حقيقة، ومقصوده التضييق على نفسه، كأنه سجنها في القطر الذي أداه إلى سخط أبيه إبلاء لعذره.
وحكم الله تعالى له بجميع أنواع العذر كالموت، وخلاص أخيه، أو انتصافه من أخذ أخيه.
وقال أبو صالح: أو يحكم الله لي بالسيف، أو غير ذلك.
والظاهر أن أويحكم معطوف على يأذن.
وجوز أن يكون منصوبًا بإضمار أن بعد أو في جواب النفي، وهو: فلن أبرح الأرض أي: إلا أن يحكم الله لي، كقولك: لألزمنك أو تقضيني حقي، أي: إلا أن تقضيني، ومعناها ومعنى الغاية متقاربان.
روي أنهم لما وصلوا إلى يعقوب أخبروه بالقصة فبكى وقال: يا بني ما تذهبون عني مرة إلا نقصتم، ذهبتم فنقصت شمعون حيث ارتهن، ثم ذهبتم فنقصتم بنيامين وروبيل.
والظاهر أنّ الأمر بالرجوع هو من قول كبيرهم.
وقيل: من قول يوسف لهم.
وقرأ الجمهور: {سرق} ثلاثيًا مبنيًا للفاعل، إخبارًا بظاهر الحال.
وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، والكسائي في رواية {سرق} بتشديد الراء مبنيًا للمفعول، لم يقطعوا عليه بالسرقة بل ذكروا أنه نسب إلى السرقة.
ويكون معنى: وما شهدنا إلا بما علمنا من التسريق.
وما كنا للغيب أي: للأمر الخفي حافظين، أسرق بالصحة أم دس الصاع في رحله ولم يشعر؟ وقرأ الضحاك: {سارق} اسم فاعل، وعلى قراءة {سرق} و{سارق} اختلف التأويل في قوله: {إلا بما علمنا}.
قال الزمخشري: بما علمنا من سرقته، وتيقنًا لأنّ الصواع أخرج من وعائه، ولا شيء أبين من هذا.
وقال ابن عطية: أي، وقولنا لك إن ابنك سرق إنما هي شهادة عندك بما علمناه من ظاهر ما جرى، والعلم في الغيب إلى الله تعالى ليس ذلك في حفظنا، هذا قول ابن إسحاق: وقال ابن زيد: أرادوا وما شهدنا به عند يوسف أن السارق يسترق في شرعك، إلا بما علمنا من ذلك، وما كنا للغيب حافظين أنّ السرقة تخرج من رحل أحدنا، بل حسبنا أن ذلك لا يكون البتة، فشهدنا عنده حين سألنا بعلمنا.
ويحتمل قوله: وما كنا للغيب حافظين أي: حين واثقناك، إنما قصدنا أن لا يقع منا نحن في جهته شيء يكرهه، ولم نعلم الغيب في أنه سيأتي هو بما يوجب رقه.
وقال الزمخشري: وما كنا للغيب حافظين، وما علمنا أنه يسترق حين أعطيناك الموثق، أو ربما علمنا أنك تصاب كما أصبت بيوسف.
ومن غريب التفسير أن المعنى قولهم: للغيب، لليل والغيب الليل بلغة حمير، وكأنهم قالوا: وما شهدنا إلا بما علمنا من ظاهر حاله، وما كنا بالليل حافظين لما يقع من سرقته هو، أو التدليس عليه.
وفي الكلام حذف تقديره: رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بالقصة.
وقول من قال: ارجعوا ثم استشهدوا بأهل القرية التي كانوا فيها وهي مصر قاله: ابن عباس أي: أرسل إلى القرية واسأل عن كنه القصة.
والعير كانوا قومًا من كنعان من جران يعقوب.
وقيل: من أهل صنعاء.
فالظاهر أن ذلك على إضمار أهل كأنه قيل: وسل أهل القرية وأهل العير، إلا إن أريد بالعير القافلة، فلا إضمار في قوله والعير.
وأحالوا في توضيح القصة على ناس حاضرين الحال فيشهدون بما سمعوا، وعلى ناس غيب يرسل إليهم فيسألون.
وقالت فرقة: بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة، ومن حيث هو نبي، ولا يبعد أن يخبره بالحقيقة، وحذف المضاف هو قول الجمهور.
قال ابن عطية: وهذا مجاز.
وحكى أبو المعالي عن بعض المتكلمين أنه قال: هذا من الحذف وليس من المجاز قال: وإنما المجاز لفظة استعيرت لغير ما هي له قال: وحذف المضاف هو عين المجاز، وعظمه هذا مذهب سيبويه وغيره.
وحكى أنه قول الجمهور أو نحو هذا انتهى.
وفي المحصول لأبي عبد الله محمد الرازي، وفي مختصراته أنّ الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسمًا من الآخر.
وبل للإضراب، فيقتضي كلامًا محذوفًا قبلها حتى يصح الإضراب فيها وتقديره: ليس الأمر حقيقة كما أخبرتم، بل سولت.
قال ابن عطية: والظاهر أنّ قوله بل سولت لكم أنفسكم أمرًا، إنما هو ظن سوء بهم كما كان في قصة يوسف قبل، فاتفق أنّ صدق ظنه هناك، ولم يتحقق هنا.
وقال الزمخشري: بل سولت لكم أنفسكم أمرًا أردتموه، وإلا فما أدري ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم.
وتقدم شرح سولت، وإعراب فصبر جميل.
ثم ترجى أن الله يجمعهم عليه وهم: يوسف، وبنيامين، وكبيرهم على الخلاف الذي فيه.
وترجى يعقوب للرؤيا التي رآها يوسف، فكان ينتظرها ويحسن ظنه بالله في كل حال.
ولما أخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له برؤية ابنه، ووصفه الله بهاتين الصفتين لائق بما يؤخره تعالى من لقاء بنيه، وتسليم لحكمة الله فيما جرى عليه. اهـ.